الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
ومنه أيضًا: بمعنى الهلاك. قوله تعالى?: {وأُحِيطَ بِهِمْ}. وقوله تعالى?: . يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـارَهُمْ أي يكاد نور القرءان لشدة ضوئه يعمي بصائرهم، كما أن البرق الخاطف الشديد النور يكاد يخطف بصر ناظره، ولا سيما إذا كان البصر ضعيفًا؛ لأن البصر كلما كان أضعف كان النور أشد إذهابًا له. كما قال الشاعر: مثل النهار يزيد أبصار الورى نورًا ويعمي أعين الخفاش
وقال الآخر: خفافيش أعماها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم
وبصائر الكفار والمنافقين في غاية الضعف. فشدة ضوء النور تزيدها عمى. وقد صرح تعالى بهذا العمى في قوله: وقال بعض العلماء: يكاد البرق يخطف أبصارهم أي: يكاد محكم القرءان يدل على عورات المنافقين. وقال بعض العلماء: وقال بعض العلماء: إضاءته لهم معرفتهم بعض الحق منه وإظلامه عليهم ما يعرض لهم من الشك فيه. الأول: خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول، كما في قوله: الدليل بقوله: البرهان الثاني: خلق السماوات والأرض المشار إليه بقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً لأنهما من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم فهو على غيره قادر من باب أحرى. وأوضح اللَّه تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة كقوله تعالى: البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها؛ فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت، كما أشار له هنا بقوله: وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىا عَبْدِنَا لم يصرح هنا باسم هذا العبد الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وصرح باسمه في موضع آخر وهو قوله: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ هذه الحجارة قال كثير من العلماء: إنها حجارة من كبريت. وقال بعضهم: إنها الأصنام التي كانوا يعبدونها. وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـارُ لم يبيّن هنا أنواع هذه الأنهار، ولكنه بيّن ذلك في قوله: وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنها زوجتي " أخرجه مسلم. ومن شواهده قول الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقول الآخر: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إليّ ثم تصدعوا ؛ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ لم يبيّن هنا هذا الذي أمر به أن يوصل، وقد أشار إلى أن منه الأرحام بقوله: وأشار في موضع آخر إلى أن منه الإيمان بجميع الرسل، فلا يجوز قطع بعضهم عن بعض في ذلك بأن يؤمن ببعضهم دون بعضهم الآخر. وذلك في قوله: ؛ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاٌّرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ ظاهره: أن ما في الأرض جميعًا خلق بالفعل قبل السماء، ولكنه بين في موضع آخر أن المراد بخلقه قبل السماء، تقديره، والعرب تسمي التقدير خلقًا كقول زهير: فولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وذلك في قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً الآية في قوله: {خليفة} وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المراد بالخليفة أبونا ءادم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنه خليفة اللَّه في أرضه في تنفيذ أوامره. وقيل: لأنه صار خلفًا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله، وعليه فالخليفة: فعيلة بمعنى فاعل. وقيل: لأنه إذا مات يخلفه من بعده، وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول. وكون الخليفة هو ءادم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية. الثاني: أن قوله: {خليفة} مفرد أريد به الجمع، أي خلائف، وهو اختيار ابن كثير. والمفرد إن كان اسم جنس يكثر في كلام العرب إطلاقه مرادًا به الجمع كقوله تعالى: وكان بنو فزارة شرعم ** وكنت لهم كشر بني الأخينا
وقول العباس بن مرداس السلمي: فقلنا اسلموا إنا أخوكم ** وقد سلمت من الإحن الصدور
وأنشد له سيبويه قول علقمة بن عبدة التميمي: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
وقول الآخر: كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين. فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالخليفة: الخلائف من ءادم وبنيه لا ءادم نفسه وحده. كقوله تعالى: ومعلوم أن ءادم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها، ولا ممن يسفك الدماء. وكقوله: ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة ءادم، وأن اللَّه أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء. فقالوا ما قالوا، وأن المراد بخلافة ءادم الخلافة الشرعية، وبخلافة ذريته أعم من ذلك، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر. تنبيــه قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة؛ يسمع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال: ودليلنا قول اللَّه تعالى: وقوله تعالى: وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها. ولقال قائل: إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم. فما لتنازعكم وجه، ولا فائدة في أمر ليس بواجب، ثم إن الصديق رضي اللَّه عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك. فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد للَّه رب العالمين. انتهى من القرطبي. قال مقيدة عفا اللَّه عنه: من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام اللَّه في أرضه. ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به كأبي بكر الأصم المعتزلي، الذي تقدم في كلام القرطبي، وكضرار، وهشام القوطي ونحوهم. كما وقع من أبي بكر لعمر رضي اللَّه عنهما. ومن هذا القبيل، جعل عمر رضي اللَّه عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض. الرابع: أن يتغلب على الناس بسيفه وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم. قال بعض العلماء: ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد اللَّه بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف فاستتب الأمر له. كما قاله ابن قدامة في "المغني". ومن العلماء من يقول: تنعقد له الإمامة ببيعة واحد، وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ومال إليه القرطبي. وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل: ببيعة أربعة. وقيل غير ذلك. هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإِمامة الكبرى. ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية في " المنهاج " أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته، ويقدر به على تنفيذ أحكام الإِمامة؛ لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإِمام. واعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط: الأول: أن يكون قرشيًّا وقريش أولاد فهر بن مالك. وقيل: أولاد النضر بن كنانة. فالفهري قرشي بلا نزاع. ومن كان من أولاد مالك بن النضر أو أولاد النضر بن كنانة فيه خلاف. هل هو قرشي أو لا ؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة في ذكر شرائط الإمام. الأول: أن يكون من صميم قريش لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" وقد اختلف في هذا. قال مقيّده عفا اللَّه عنه: الاختلاف الذي ذكره القرطبي في اشتراط كون الإمام الأعظم قرشيًا ضعيف. وقد دلت الأحاديث الصحيحة على تقديم قريش في الإمامة على غيرهم. وأطبق عليه جماهير العلماء من المسلمين. وحكى غير واحد عليه الإجماع ودعوى الإجماع تحتاج إلى تأويل ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: "إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته". فذكر الحديث وفيه: "فإن أدركني أجلى وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل". ومعلوم أن معاذًا غير قرشي وتأويله بدعوى انعقاد الإجماع بعد عمر أو تغيير رأيه إلى موافقة الجمهور. فاشتراط كونه قرشيًا هو الحق، ولكن النصوص الشرعية دلت على أن ذلك التقديم الواجب لهم في الإمامة مشروط بإقامتهم الدين وإطاعتهم للَّه ورسوله، فإن خالفوا أمر اللَّه فغيرهم ممن يطيع اللَّه تعالى وينفذ أوامره أولى منهم. فمن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه)، عن معاوية حيث قال: باب الأمراء من قريش. حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش: أن عبد اللَّه بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك قحطان فغضب، فقام فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإنه قد بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه، ولا تؤثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها. فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه اللَّه على وجهه ما أقاموا الدين". انتهى من "صحيح البخاري" بلفظه. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أقاموا الدين" لأن لفظة "ما" فيه مصدرية ظرفية مقيدة لقوله: "إن هذا الأمر في قريش"؛ وتقرير المعنى إن هذا الأمر في قريش مدة إقامتهم الدين، ومفهومه: أنهم إن لم يقيموه لم يكن فيهم. وهذا هو التحقيق الذي لا شك فيه في معنى الحديث. وقال ابن حجر في "فتح الباري" في الكلام على حديث معاوية هذا، ما نصه: وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه نظير ما وقع في حديث معاوية، ذكره محمد بن إسحاق في الكتاب الكبير . فذكر قصة سقيفة بني ساعدة، وبيعة أبي بكر وفيها: فقال أبو بكر: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا اللَّه واستقاموا على أمره . وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء: الأول: وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به. كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال: "الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثًا: ما حكموا فعدلوا"، الحديث وفيه: "فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللَّه" . وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم . الثاني: وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم . فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه: "إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث اللَّه عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب". ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد اللَّه بن مسعود ولم يدركه، هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد اللَّه، وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمان عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه: "لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته" الحديث . وفي سماع عبيد اللَّه من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار، أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء، ولفظه: قال لقريش: " أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة " وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم، وإن كان فيه إشعار به . الثالث: الإذن في القيام عليهم وقتالهم، والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه: "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء" . ورجاله تقات، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن روايه سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه. وأخرج أحمد من حديث ذي مِخْبَر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء، وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان هذا الأمر في حمير فنزعه اللَّه منهم وصيره في قريش وسيعود لهم" وسنده جيد، وهو شاهد قوي لحديث القحطاني فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية: "ما أقاموا الدين" أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم . انتهى.
|